كثيرًا ما تسمع عن مصطلح الثورة الصناعية والتأثير الذي أحدثته في المجتمعات الأوروبية، ولكنك ربما لا تعلم ملابسات هذه الثورة تفصيلاً وكيف بدأت، وما مدى تأثيرها في القطاعات المختلفة؟! ... بدايةً حدثت الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأدت إلى تحول المجتمعات الريفية الزراعية في أوروبا وأمريكا إلى مجتمعات صناعية وحضرية .
فقبل هذه الثورة الصناعية -التي بدأت في بريطانيا في أواخر القرن الثامن عشر- كان التصنيع غالبًا ما يتم في المنازل باستخدام الأدوات اليدوية أو الآلات الأساسية ، أما بعدها فقد أصبح التصنيع باستخدام ماكينات تعمل بالطاقة وفي مصانع إنتاج ضخمة... وقد لعبت صناعات الحديد والمنسوجات مع تطوير محرك البخار أدوارًا مركزية في الثورة الصناعية ، وأدى ذلك إلى تحسين نظم النقل والاتصالات والخدمات المصرفية.
وعلى الرغم من أن التصنيع قد أدى إلى زيادة حجم وتنوع السلع المصنعة وتحسن مستوى المعيشة بالنسبة للبعض ، فإنه قد نتج عنه ظروف عمل سيئة بالنسبة للفقراء والطبقات العاملة.
بريطانيا.. مهد الثورة الصناعية :
قبل ظهور الثورة الصناعية ، كان معظم الناس يقيمون في المجتمعات الريفية الصغيرة وكانوا يعتمدون على الزراعة. وكانت حياة الشخص العادي صعبة ، حيث كانت الدخول ضئيلة ، وكان سوء التغذية والمرض من الأشياء المنتشرة بكثرة بسبب الفقر الشديد، فكان الناس يصنعون طعامهم وملابسهم وأثاثهم وأدواتهم، وكانت عملية التصنيع –كما ذكرنا من قبل- تتم في المنازل أو المتاجر الصغيرة أو الريفية باستخدام الأدوات اليدوية أو الآلات البسيطة.
وقد أسهمت عدة عوامل في جعل بريطانيا مصدرًا لبدء الثورة الصناعية ، فقد كان لديها رواسب كبيرة من الفحم والحديد الخام وهي مواد ضرورية للتصنيع، بالإضافة إلى ذلك كانت بريطانيا مجتمعًا مستقرًا سياسيًا ، فضلاً عن أنها كانت القوة الاستعمارية الرائدة في العالم ، وهذا يعني أن مستعمراتها كانت مصدرًا للمواد الخام وسوق للسلع المصنعة. ومع ازدياد الطلب على السلع البريطانية ، أصبح التجار يحتاجون إلى أساليب إنتاج أكثر فعالية من حيث التكلفة ، مما أدى إلى ظهور الميكنة ونظام المصانع.
الابتكار والتصنيع :
لقد تأثرت صناعة النسيج بشكل كبير على إثر الثورة الصناعية ، إذ كانت المنسوجات تُصنع بشكل أساسي في منازل الناس ، و كان التجار يقدمون المواد الخام والمعدات الأساسية ، ثم يأخذون المنتج النهائي. وقد وضع العمال جداولهم الخاصة في إطار هذا النظام ولكن هذا النظام أثبت عدم كفاءته.
في القرن الثامن عشر الميلادي ، أدت الابتكارات إلى زيادة الإنتاجية، ولكن كالعادة كل تطور له ضحاياه فهذه الابتكارات كانت تحتاج إلى عدد أقل من العمال. على سبيل المثال ، في عام 1764 اخترع الإنجليزي جيمس هارجريفز (1722-1778) المحرك ، وهي آلة مكّنت الفرد من إنتاج بكرات خيوط كثيرة في وقت واحد.
وعندما توفي هارغريفز ، كان يوجد أكثر من 20000 محرك في جميع أنحاء بريطانيا، وقد تم تحسين المحرك بواسطة البريطاني صموئيل كومبتون (1753-1827) ، إلى جانب اكتشاف الكثير من الآلات ، وقد تم تطوير النسيج أيضًا في الثمانينيات من القرن الثامن عشر على يد المخترع الإنجليزي إدموند كارترايت (1743-1823).
كما لعبت التطورات التي حدثت في صناعة الحديد أيضًا دورًا مركزيًا في الثورة الصناعية، ففي أوائل القرن الثامن عشر ، اكتشف الإنجليزي إبراهام داربي (1678-1717) طريقة أرخص وأسهل لإنتاج الحديد الزهر ، باستخدام فرن يعمل بالوقود (على عكس الفحم). وفي عام 1850، طوّر المهندس البريطاني هنري بيسمر (1813-1898) أول عملية غير مكلفة لإنتاج الصلب للصلب المنتج ، و أصبح الحديد والصلب من المواد الأساسية التي تستخدم لصنع كل شيء من الأجهزة والأدوات والآلات ، إلى السفن والمباني والبنية التحتية.
وقد كان المحرك البخاري أيضًا جزءًا لا يتجزأ من عملية التصنيع؛ ففي عام 1712 ، طور الإنجليزي توماس نيوكومان (1664-1729) أول محرك بخاري عملي (والذي تم استخدامه في المقام الأول لضخ المياه من المناجم)، وبحلول السبعينيات من القرن السابع عشر انتقل المحرك البخاري إلى ماكينات الطاقة والقاطرات والسفن خلال الثورة الصناعية.
النقل والثورة الصناعية :
قبل ظهور المحرك البخاري ، كان يتم نقل المواد الخام والسلع وتوزيعها بواسطة عربات تجرها الخيول ، وبالقوارب على طول القنوات والأنهار. وفي أوائل القرن التاسع عشر ، قام الأمريكي روبرت فولتون (1765-1815) ببناء أول سفينة بخارية ناجحة تجاريًا ، وما أن انتصف القرن التاسع عشر ، كانت البواخر تحمل شحنًا عبر المحيط الأطلسي، وعندما كانت السفن التي تعمل بالبخار في بدايتها ، بدأ استخدام قاطرة البخار في أوائل القرن التاسع عشر ، وبنى المهندس البريطاني ريتشارد تريفيثيك (1771-1833) أول قاطرة بخارية للسكك الحديدية.
وفي عام 1830 ، أصبحت سكك حديد ليفربول ومانشستر في إنجلترا أول شركة تقدم خدمات نقل للركاب ، وأصبح لدى بريطانيا أكثر من 6000 ميل من خطوط السكك الحديدية وذلك بحلول عام 1850.
بالإضافة إلى ذلك ، في عام 1820 ، طور المهندس الأسكتلندي جون ماك آدم (1756-1836) عملية جديدة لبناء الطرق وقد أصبحت الطرق بعد ذلك أكثر سلاسة وأكثر صلابة.
الاتصالات والبنوك في الثورة الصناعية :
خلال الثورة الصناعية أصبح التواصل أسهل باختراعات مثل التلغراف، ففي عام 1837 قام اثنان من البريطانيين ، ويليام كوك (1806-1879) وتشارلز ويتستون (1802-1875) ، بتسجيل براءة اختراع أول برقية كهربائية تجارية ، وفي عام 1866 ، تم بنجاح إنشاء كابل التلغراف عبر المحيط الأطلسي.
كما شهدت الثورة الصناعية نهوض البنوك والممولين الصناعيين ، بالإضافة إلى نظام مصنع يعتمد على المالكين والمديرين، وقد تم تأسيس بورصة في لندن في السبعينيات من القرن السابع عشر، وتأسست بورصة نيويورك في أوائل عام 1790.
وفي عام 1776 نشر الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث (1723-1790) ، الذي يعتبر مؤسس الاقتصاد الحديث كتاب "ثروة الأمم" الذي يروج لنظام اقتصادي قائم على المشاريع الحرة ، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعدم تدخل الحكومة.
مستوى المعيشة أثناء الثورة الصناعية :
أدت الثورة الصناعية إلى زيادة السلع المنتجة في المصانع وتنوعها ، ورفعت مستوى المعيشة للكثير من الناس ، ولا سيما بالنسبة للطبقات الوسطى والعليا، ولكن استمرت حياة الفقراء والطبقات العاملة مليئة بالتحديات؛ فكانت الأجور بالنسبة لمن يعملون في المصانع منخفضة ، وكانت ظروف العمل خطرة ومملة، كما كان العمال غير المهرة قابلين للاستبدال بسهولة، و كان الأطفال جزءًا من قوة العمل وكثيرًا ما كانوا يعملون لساعات طويلة و يتم استخدامهم في مهام شديدة الخطورة مثل تنظيف الآلات.
وفي أوائل ستينيات القرن التاسع عشر ، كان خُمس العمال الذين يعملون في صناعة النسيج في بريطانيا تحت سن ال 15 عامًا، كما كان التصنيع يعني استبدال بعض الحرفيين بالآلات.
ولم تتمكن المناطق الحضرية والصناعية من استيعاب تدفق العمال القادمين من الريف ، مما أدى إلى عدم كفاية السكن المكتظ والظروف الملوثة وغير الصحية التي كان المرض فيها متفشيًا، ولكن بدأت ظروف الطبقة العاملة في بريطانيا في التحسن تدريجيًا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر ، حيث أقامت الحكومة العديد من الإصلاحات العمالية وحصل العمال على الحق في تشكيل نقابات العمال.
التصنيع يتخطى بريطانيا :
لقد سنّت بريطانيا تشريعات عدة لحظر تصدير التكنولوجيا الخاصة بها والعمال المهرة ؛ ومع ذلك لم يحالفهم النجاح في ذلك؛ فقد انتشر التصنيع من بريطانيا إلى دول أوروبية أخرى ، وكان من بينها بلجيكا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر ، كان التصنيع منتشرًا في جميع أنحاء الجزء الغربي من أوروبا ومنطقة أمريكا الشمالية الشرقية، ثم أصبحت الولايات المتحدة الدولة الصناعية الرائدة في العالم ، وذلك بحلول أوائل القرن العشرين.